فؤاد بكر
بعد مرور 200 يوم على حرب الابادة الجماعية التي يتصدى لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ها هي أجراس الكنائس تقرع، ومآذن المساجد ترفع، لكن ليست هذه المرة لتأدية الصلاة الروتينية، بل للتضامن والبحث عن الكرامة والحرية، ولاقتسام خبز الموت معا. أطفال غزة تشرب دماءها، تلتحف أشلاءها، وتأكل أحشاءها، لا ماء، لا دواء، لا غذاء، لا كهرباء.
رغم كل معاناة الحرب الوحشية والابادة الجماعية وسياسة التجويع التي تحصل في قطاع غزة، مازال أهل غزة متمسكين بحقهم في أرضهم ويرفضون مخطط التهجير القسري أو الطوعي، تحت أي من المسميات الوهمية التي يغلب عليها الطابع الانساني مثل “ممرات إنسانية”، “ممرات آمنة”… ما يجعل كل واحد منا يفكر بصلابة إرادة الفلسطينيين، ومن أين يستمدون هذه القوة والأمل؟
عندما يتصل بي أحد الأصدقاء من قطاع غزة ليطمئن عليّ وهو تحت القصف والدمار، وليس عنده كهرباء ليشحن هاتفه، وتحت ظروف إنقطاع أجهزة الاتصالات، فإنه من يعطيني الأمل والمعنى للحياة.
عندما تفتتح أبواب الكنائس للمسلمين وأبواب المساجد للمسيحيين، ويدفن المسلم جنبا إلى جنب المسيحي، ويكسر جدار المقابر المذهبية والطائفية بإطار مقبرة جماعية في أرض إستشهدوا من أجلها، ويصلي الراهب على المسلم والشيخ على المسيحي، فإنه أسمى مفهوم التنوع.
عندما أسأل أحد الأصدقاء في قطاع غزة عن نظرته للموت وسبب تمسكه بالأرض، فيجيب قائلا عندما تضيق بنا الدنيا، فإننا نحنّ للعودة إلى الحضن الأول الذي خلق منه الإنسان وهو الطين والتراب، وعندما يدفن الإنسان في أرضه ويبلى جسده يتحول إلى تراب ليمتزج بتراب الوطن. فعلا إنه أسمى مفهوم للفلسفة.
عندما أتصل بصديق في قطاع غزة ويقول أن أمه تعاني من مرض في المعدة لأنها شربت من ماء البحر وليس هناك ماء للشرب، فهو ليس إلا حب الحياة بكرامة، قد تعتقد أنه يبالغ ولكن لا تعرف أنها حقيقة في عالم يخفي الحقائق ويسلط الضوء على بعض التفاهات.
عندما يعاند الفلسطيني نفسه ويصبر على الجوع والعطش والمرض، فهو لأنه يريد الكرامة الإنسانية، التي تتجلى في الحرية والخلاص من ظلم وإضطهاد وقمع، وعيش في سجن كبير بسبب الحصار.
عندما صرح وزير التراث الإسرائيلي بأنه يجب ضرب غزة بقنبلة نووية، أجاب أحد أصدقائي في قطاع غزة متهكما، إذا عندهم القنبلة الذرية (النووية)، فعندنا القنبلة الذرية (كثرة الإنجاب)، فعلا إنه أسمى معاني البقاء والصمود.
عندما تكون طفلة تحت الركام، وتنادي أنقذوا إخوتي وعائلتي أولا، فهو ليس إلا أسمى معاني أن تحب للغير ما تحبه لنفسك، ولو كان على حسابك الشخصي.
عندما يقول طفل في قطاع غزة وهو يحمل أشلاء أخيه في حقيبته المدرسية ويركض لسيارة الإسعاف التي ليس فيها وقود أصلا ويقول، نحن أطفال لا نكبر في ظل الاحتلال، فهو أعلى معاني الوعي الحقيقي لحقوقه.
كتب أحد أصدقائي من هم تحت القصف، كم كانت أحلامنا سخيفة أمام حلمنا اليوم، حلمي الوحيد أن لا أرى أشلائي في كل مكان، حلمي أن أنام قبل وصول الصاروخ كي لا أشعر بأي ألم، ووصيتي لك أن توصل مقولتي إذا مت، وهي أنني قاومت من أجل أن أتنفس، وأن أرض فلسطين كالناي، كلما ثقبها صاروخ كلما خرج منها لحن أجمل بالانتصار. هل عرفتم من أين يسمتد الفلسطيني أمله رغم كل السواد المحيط به؟
عندما سألت أحد أصدقائي عن شعوره بما حصل في صباح يوم السابع من أكتوبر 2023، أجاب “أتذكر عندما كنا أطفالا ونلعب بساحة القرية لوقت متأخر ونعلم اننا اذا عدنا متأخرين سنتعاقب من أهلنا، ولكننا نبقى لأننا سعيدون رغم معرفتنا بالعقاب؟ إنه ذات الشعور”.
رغم كل الالم هناك أمل، سيخرج الشعب الفلسطيني من تحت الأنقاد، ليرفع علم دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة بعاصمتها القدس، وليس هناك ما يسمى باليوم التالي التي تروج له الادارة الاميركية والكيان الاسرائيلي، ولن يكون الا ما يسعى إليه الفلسطينيون، لان الحقوق تنتزع ولا تمنح، وليس نيل المطالب بالتمني، بل بالتعب والمقاومة، فالحرية ثمنها عاليا جدا، وعندما تتحرر غزة وتخرج من الحرب منتصرة، اخلع نعليك قبل دخولها، لأن ترابها قد حضن شهداء الحرية.