عاشوراء النبطية.. من الحظر إلى العمل المسرحي
مقالات وتحقيقات
2022-08-01

وقد ارتبطت هذه الشعائر كونها جزءاً من التاريخ الديني والاجتماعي ارتباطاً وثيقاً بالحاضر المعيشي، وتجذّرت في الذاكرة الشعبية فكوّنت وعياً جماهيرياً لا ينضب، وإرثا فكرياً وثورياً لا يهدأ.
تاريخ إقامة الشعائر الحسينية
لم يعرف من تاريخ مجالس التعزية العاشورائية لدى شيعة لبنان على امتداد الوجود العثماني من 1516-1918، سوى أنّها كانت تُقرأ سرّاً في البيوت بسبب منع العثمانيّين الطائفة الشيعيّة من إقامة شعائرها الخاصة.
وبسبب سرّية الإحياء لم تحظى كيفية ممارسة هذه الشعيرة بالتدوين من قبل المؤرخين والباحثين، وذلك خوفاً من التعرض للملاحقة بسبب رقابة الدوريات العسكرية العثمانية التي كانت تدور في الأزقة والأحياء طيلة أيام عاشوراء من أجل منع الاجتماعات وإقامة التظاهرات.
لذلك، اقتصرما تم تدوينه حولها على التأريخ الشفوي المنقول عن المعمّرين الذين عايشوا وشاركوا في مجالس التعزية.
كانت الذكرى تُعاش في جوٍ من الضغط والخوف لدى أبناء الطائفة الشيعية عند إقامتها، ولو بالشكل الشفوي الذي كان يقتصرعلى جلسات تُروى خلالها سيرة الإمام الحسين(ع) وأهل بيته في كربلاء.
يذكُرُ السيد محسن الأمين في مذكراته أنّ "المجالس كانت تقام في أيام طفولته في أواخر القرن التاسع عشر، وكان يقرأ في الليالي العشر الأولى من محرم في كتاب إسمه المجالس، أما في اليوم العاشر فكان يقرأ في كتاب أبي مخنف، وهو من المؤرخين الأوائل في تاريخ الإسلام"، ثّم يؤتى بالطعام إلى المساجد وعادةً ما تكون الهريسة وهي طعام خاص بيوم العاشر عند شيعة جبل عامل .
أما في مطلع القرن العشرين، سُمح للإيرانيين بإحياء مراسم عاشوراء فقط في مدينة النبطية عندما قدمت إلى المدينة عائلات إيرانية هرباً من نظام رضا شاه البهلوي، حيث بادر أحدهم وهو الطبيب إبراهيم الميرزا الذي حضر إلى جبل عامل في سنة 1917 واستقر فيها مزاولاً لمهنته، إلى إستصدار ترخيص من الخارجية العثمانية في إسطنبول بواسطة القنصل الإيراني في بيروت...
وفي العام 1919، وإبان انسحاب الحكم العثماني من لبنان، بدأ الإحياء بشكلٍ علنيٍ ومشترك ٍ بين الإيرانيّين وأهالي مدينة النبطية ثّم بدأ العدد بالتزايد ليشمل كل شيعة جبل عامل .
وكانت الندبيّات تتردد باللغة الفارسية، وتجوب مسيرات اللطم أحياء المدينة يرأسها الطبيب ميرزا طيلة ليالي عاشوراء، " وكان يُقرأ مقتل الإمام الحسين (ع) باللغة الفارسيّة، ثم أصبح باللغة العربية عام 1926".
الجدير ذكره أنّه في أواخر أيام العثمانيين، قدم إلى النبطية المجتهد العلامة الشيخ عبدالحسين صادق من النجف الأشرف في العراق، وأسهم في إخراج الشعائر إلى العلن، وخصوصاً بعدما بنى في عام 1909 أول نادٍ «حسيني» في لبنان وبلاد الشام، ثم أخذ يشجع على إقامة مسرح عاشوراء وكتابة النصوص المتعلقة بذلك.
وهكذا وُضع أول حوار بالعربية لتمثيلية عاشوراء، هذا الحوار الذي كان يدور أثناء مبارزة الإمام الحسين(ع) مع شمر والذي نسقه آنذاك الدكتور إبراهيم ميرزا هو الذي أعطى تمثيلية عاشوراء النسق المسرحي الذي عُرفت به فيما بعد.
وفي اليوم العاشر من محرم عام 1921م، قامت مجموعة من الشباب اللبناني بتمثيل واقعة الطف لأول مرة في النبطية، لم يكن العمل المسرحي حينها يقوم على نص مكتوب، بل على حوارات مجتزأة، وقد استمر العرض المسرحي بهذه الطريقة إلى العام 1936 ،حيث عمد العلامة عبدالحسين صادق إمام مدينة النبطية إلى صياغة نص مسرحي متكامل إستناداً إلى روايات المؤرخين الشيعة بلغة فصيحة ومتينة. وقد حقق العرض المسرحي الجديد نجاحاً كبيراً وقد جعل هذا التطور في العرض المسرحي النبطية مقصداً للكثير من المهتمين الذين كانوا يتوافدون إلى البلدة ليلة العاشر من المحرم، من أجل المشاركة بمراسم اليوم التالي.
واستمرت المسرحية تُقام على مسرح خشبي شعبي في ساحة البيدر في النبطية حتى عام 1971، تحت إشراف النادي الحسيني في المدينة. بعدها، أصبحت تقام على مسرح شعبي كبير وترافقها مجالس التعزية.
إذاً بعد بدايات متواضعة شهدتها احتفالات عاشوراء في النبطية منذ بدايات القرن العشرين، نمت هذه الاحتفالات نمواً مضطرداً وشهدت ازدهاراً واسعاً ، وما لبثت أن تحولت إلى مهرجان ديني يستقطب الآلاف من المشاركين في يومي التاسع والعاشر الذين يتوافدون إليها من مختلف المناطق اللبنانية، حيث تُقدّم المسرحية وسط حشود قد تصل إلى نحو خمسين ألف مشارك ومتفرج من مختلف الملل والطوائف.
ومازال العرض المسرحي في تطورٍ مستمر حيث أصبح يستقطب عدداً من الفنانين اللبنانين من المذاهب المختلفة لتأدية أدوار شخصيات العرض المختلفة. وفي السنوات الأخيرة، شهد المسرح العاشورائي تحولاتٍ نوعية، على صعيد مقاربته ليكون مثالاً للأجيال الجديدة. ففي عام 2015، أعدّت مدينة النبطية مسرحية "قصة جان"، خادم الإمام الحسين(ع)، وتُعتبر هذه المسرحية المخصصة للأطفال التجربة الأولى للمسرح العاشورائي، ويجب تكرارها والسعي على أن تكون ذكرى عاشوراء فرصة لزرع وتكريس مفاهيم تربوية وحياتية وأخلاقية تتوارثها الأجيال في حياتها اليومية.