الإمام موسى الصدر... كاريزما الشخصية الإستلهامية..
لبنان
2023-08-31

لا يمكن مقاربة (مفهوم الكيانيّة) في فكر الامام موسى الصدر، من دون تناوله على ضوء ومنطق (مفهوم النهائيّة)، التي إنمازت بها مواقفه وطبعت شخصيته الكاريزمية الإستلهاميّة بسماتٍ مايزة، لا تزال حتى اليوم مدارَ أيِّ كلامٍ في الحوار والتلاقي والوطنيات والولاء الانتماء والالتزام.
وأبلغ كلام وأدق وصف يليق بقامة الإمام موسى الصدر في ذكرى تغييبه، انه رجل إيمان لكل انسان طيب وابن اخلاقه، وابعد من ان يوصف انه رجل دين لجماعة لبنانية دون غيرها، رغم ما له من مؤيدين ومريدين ومقلدين واتباع عند الشيعة، ومحبّين عند الجماعات اللبنانية والمسيحيين بالأخصّ، كونهم أكثر الطوائف انتشاراً وتوزُّعا ديموغرافيا وتفاعلاً مع البيئة الشيعية. وهذه أبرزُ علاماته الروحية والعلائقية المايزة، التي جعلته إماماً مقدّراً ومحبوبا وداعيةَ سلام ووئام وملهمَ العقول على الخير، وركيزةً قياديةً استقطابيةً التقى على احترامها المسيحيّون والمسلمون، لانهم وجدوا في شخصيته الهدوء الفكري والروية الكلامية، التي تتنخل الالفاظ وتختار المصطلحات وتنتقي المعاني بإحترافية العارف بأسرارية معنى المفردات ودلالات الكلام وفلسفة توظيف كل كلمة وصقلها وإنزالها في المطرح الأنسب، الأقربِ للفهم.
وأصعب ما كان يعترض عمليات الانقاذ والإغاثة والحماية التي نذر نفسه للقيام بها ميدانياً في زمن الحرب على لبنان، هو التشظي الدائم للاحداث وسعيه لإخماد الفتنة الطائفية بكل اشكالها وفنونها ومندرجاتاها، في بيئة هشة متنوعة التكوين المجتمعي والديني والعقيدي، ومتناقضة العقائد والإنتماءات الحزبية، وواسعة التوزع ديموغرافياً، بإمتداداته داخل لبنان وصولاً الى بلاد الاغتراب.
واتوسع بالتمييز بين (رجل الايمان) و(رجل الدين)، لأقولَ إن الإمام الصدر نشر بعمقيات فكره الانفتاحي ثقافةَ العيش التعاضدي والسلامي بين اللبنانيين، وعكس بسلوكياته الهادئة فحوى إيمانه الروحي السميح ومنطقه الحواري العقلي، الذي إنطبعت به مرحلة (الإمامية الصدرية) ببعدها اللبناني والتلاقوي والتفاهمي، المرتكز على أسس التعاطي الأفقي بين المكوِّنات المجتمعية اللبنانية، انطلاقاً من مبدأ (التكامليّة)؛ حيث لكل جماعة موقعها ومكانتها وخصوصياتها الكيانية في الواقع اللبناني، وعليها ان تتحمل مسؤوليتها بحماية وتحصين الإنصهارية العيشية السلامية، المتوافقة على ان نوعية لبنان هي بتنوعه، وان فرادته هي بتمايزاته الحضارية والثقافية التي تشكل مزيجاً نموذجياً لنِعمة تكامل الروحانيات واصول فهم أسرارية ماذا تعنيه (الكيانيّة اللبنانية)، بمعانيها الإيمانية السمحاء ورسالتها الحوارية الانفتاحية، نيابةً عن المجتمعات الدينية المليارية الواسعة الانتشار والتجمعات المنضوية تحت هويات إنتمائية، تتقارب حيناً وتتباعد موسمياً مراتٍ كثيرات.
في هذه الظروف الاستثنائية التي يكثرُ فيها الوجدُ صفناً بحالنا، تحفز ثقافة سماحته الموسوعية، لأن نتبصر بالحال التي نقاسيها، فترةً بعد فترةٍ، وكأننا منذورون للمآسي وتخلفنا عن إيفاء النذر، فنفكرُ بالبحث عن كوة جدارية يدخل منها النور الى عمق النفق المظلم والوضع الظالم الذي نكابده، والذي لم نعد نقوى على التعايش معه إلّا بالصلاة والصوم ولوْ تعذّر علينا الإفطار على غير فُتاتِ خبزنا الأسود، ولا نجد غيرَ الافكار السلامية والنورانية نتقوى بها للتحصن ومواجهة الإحباطات المتناسلة والتي أمست اكثر عدوى واشد فتكاً من أيِّ مبيد.
عندما طرح الامام موسى الصدر إضمامة مفاهيم ورزمة مصطلحات سلامية بيضاء، اسهمت بصناعة مخارج معقولة للأزمة-الفتنة آلتي ضربت لبنان في سبعينات القرن الماضي، وإجتهد لوضع حلول للتقارب والتفاهم والتوحيد بين اللبنانيين، كان سماحته يُدرك بعلميته وإجتهاديّاته الايمانية وتحليلاته العقلية ورؤيوية الإستباقبية ان (النموذجية اللبنانية) تستلزم عناية إستثنائية ورعاية مركزة من المجتمع الدولي الواسع والمجتع الإقليمي الاقرب والمجتمع اللبناني الضيق، نظراً للرهان المأمول من نجاح هذا النموذج العيشي بين الطوائف والمذاهب، يقابله خطر إفشال قصدي لهذه الحالة الحوارية والعيشية، لصالح منطق التفكيك والتفتيت وفتح الامور على اخطار مهددة للكيان والصورة والرسالة.
وإذ لا يمكن تأطير شخصية الامام وعقيدته وسلوكاته العيشية خارج نهجه الايماني السلامي والحواري، فإنه بالإمكان مقاربة جزءٍ من ادبيات حضوره الميداني التفاعلي على مدى الوطن، من منظور تقويمي خارج حرم الحسينيات وابعد من حدود الطوائف وجغرافيات المذاهب وإنضواء الجماعات، في محاولة لتبيين بعض اللُمع الفكرية وتظهير المبادرات الانقاذية التي اطلقها ووتكوكب حول هالةِ نورها أهلُ الخير وابناءُ المحبة والذين هم لبنانيون كثيراً وإنسانيون عميقاً.
اولاً: في لبنانية الإمام الإيمانية والإنسانية :
إنتظمت نهج الامام موسى الصدر في حياته النضالية وسعيه الجهادي وفكره الإجتهادي، إسهاماتٌ واسعة على صعيد نشر القيم الروحية التلاقوية التي ارتاح اليها المسيحيون وراحوا ينشرونها ويحتمون بها في ظروف ظلامية دامسة، الى حد ان كثيرين من المرجعيات الروحية والوطنية اعتبروا الامام الصدر الرجل الابيض في الزمن الاسود، فتلاقوا معه على نبذ الفتنة وقتلها وإقتلاع جذورها، لانها عشبة شوكية غريبة عن أرضنا وترفضها تربتنا اللبنانية. انقل عن مثلث الرحمات المطران سليم غزال، صديقِ الإمام وقادرِ دوره، ان الامام إشتكى له يوماً من (ان في لبنان كثيرٌ من اللبنانيين، وقليلٌ مَنْ المواطنين)..!
تلك التلاقيات الروحية، شكلت جسورَ تواصل ونقاط تفاهم على الكثير من الامور الخلافية التي تقاطع حولها بعض اللبنانيين، مما سمح بوئد الفتن القاتلة، بكل اشكالها وانواعها وسمومها ومخاطرها التي كانت تطل علينا وتعمل للغدر بنا من الخلف، وتخطط لإغتيال الكيان اللبناني بنموذجيته الحضارية ورسالته الإنسانية.
والذي يتتبع خطب وكلمات السيد موسى، في مفاصل الأزمات المتنقلة يدرك أي موقع للإنسان في اهتماماته، ويستطلع مدى انشغالاته في مستقبل الشباب وتهيئة الظروف الملائمة لإنتظاراتهم، وكيفيةَ سعيه لملاقاتهم، لإنقاذهم من الاخطار كانت تتهددهم، والتي كان يلاحقها، مرة كإطفائي ومرة كمنقذٍ ومرة كمسعفٍ ومراراً كمبشر بالمحبة وداعية للسلام، ماداً يده للشباب فيلتقيان الى منتصف الطريق ويأخذ بيدهم ويشجعهم على بناء الثقة بأنفسهم، لانهم مسؤولو الغد وما بعده.
ثانياً: الكونية الكوزموبوليتية في فكره الانفتاحي والحواري والاجتهادي:
تتحدد الكونية الفكرية ببعدها الكوزموبوليتي السلامي في نهجيات سماحته، من خلال رصد انشغالاته بالهمّ الإنساني وسعيه لتقعيد أسس إطلاق المبادرات الحوارية الهادفة الى نشر وتعميم نظرية بناء الجسور بين المكونات المجتمعية اللبنانية، بما يمتن العلاقات بينهم ويمكنهم من التضلع من ثلاثية: التعرف والتعارف والتعريف، لبناء شبكة علاقات معرفية يفيد منها كل لبناني هادف الى الخير وعارف بفضائل الحوار والتفاعل الفكري من منطلق ان الخير موجود في الانسان وان الشر ليس من طبيعته أصلاً. على هذا الاساس الفكري والتسليمي والتصالحي بنى السيد الإمام رؤيته الى لبنان السلام المرتكز الى كونية سلامية فكرية ودينية تنظر الى ابعد من المادة والارضيات، وكأنه يدعو ويعمل الى ترتيب حوائج الآخرة بفضائل الدنيا.
وتتأكد الكونية الفكرية في سلوكات الامام وفكره من خلال الرصيد الذي تراكم حول ارائهم مواقفه وميدانياته لدى الكثير من المراجع الروحية، والتقدير الكبير الذي له في مراكز الحوار والبحوث العالمية، اضافة الى عمق موقعه لدى ملايين لبنانيي الانتشار، بكل انتماءاتهم الدينية وتوزيعاتهم الجغرافية. وهذه لفتة يجب التركيز عليها لاحقا لدراسة أثر السيد موسى الصدر وموقعه بين الانتشار اللبناني والبحث في كيفية إستثمار هذا الرصيد لإعادة فهم الخصوصية اللبنانية وتحصين دعائمها النوعية، وجعلها أكثر قابلية للحياة واشد تماسكاً وتضامناً ووحدة.
لَنْ يُفهَمَ الإمامُ موسى الصدر خارجَ منطق الحوار السلامي، والخطاب النوعي، والتلاقيات الروحية. ففي قامته ومواقفه تجتمعُ قُدراتٌ كاريزمية جاذبة للأسماع ولافتة للإنتباه، ومُثلِجة للصدور..
وفي مهابته وحضوره اللفظي، ما يجعلُ معاصريه وعارفيه، يفخرون بمزامنته ويعتزون بمعرفته..
وفي هامته، التي نستحضرها كلما الزمن بنا عصف، والقدرُ غدرَ وقصف، قِبلةٌ فكريةٌ يهتدى بها، ومِثالٌ نحتمي بعلميته وشخصية يرتاح إليها كل إنسان قويم وفكر سليم.