جوازات سفر 'ذهبية' أوروبية ... لهاربين من العدالة!
اخبار حول العالم
2023-02-28

والحال أن بيع جوازات السفر والإقامات الذهبية الذي بدأ قبل نحو 30 عاماً في دول الكاريبي، صار تجارة رائجة تقدر قيمتها بعشرات مليارات اليورو، وأهم "بضائعها" أوروبية نخبوية تستهدف الأثرياء. فهي تسهل حركتهم بشكل أفضل من جنسيات بلدان صغيرة شبه مجهولة قد يضع الغرب العراقيل في طريقها ساعة يشاء. وهذا ما حصل لـ"فانواتو" الواقعة في المحيط الهادي التي جمّد الاتحاد الأوروبي قرار إعفاء مواطنيها من تأشيرة الدخول إلى دوله بدءاً من 4 شباط (فبراير) الجاري، وذلك بسبب التساؤلات حول "نظافة" متاجرتها بالجوازات.
ويمكن لبلد أوروبي أن يخوض التجربة من خلال إطلاق برامج استثمارات خاصة بالهجرة تؤمن مساراً سريعاً لنيل جواز السفر أو الإقامة التي تمهد لحصول صاحبها على الجنسية لاحقاً. وفي الحالتين، يقدم الزبون مساهمة استثمارية كبيرة، أو تبرعات لهيئات حكومية، أو كليهما.
ويُعتقد أن عائدات أوروبا من هذه التعاملات زادت عن 25 مليار يورو خلال خمس أو ست سنوات من العقد الماضي، وفق تقرير لـ"منظمة الشفافية الدولية" صدر في 2018. وتمكنت دول صغيرة كانت حظوظها الاقتصادية تراجعت، من أن تحقق أرباحاً كبيرة من صفقات "جواز السفر الذهبي"، كقبرص التي زاد ما كسبته على 4.8 مليارات يورو بين 2013 و2018. واستمرت هذه الأموال بالتدفق على دول القارة، ولا تزال. مثلاً جنت البرتغال من استثمارات "الإقامة الذهبية" نحو 400 مليون يورو بين كانون الثاني (يناير) وآب (أغسطس) 2022.
كان من الممكن الحصول في أوروبا على "جواز السفر الذهبي" في 4 دول، و"الإقامة الذهبية" في 12 دولة. إلا أن العدد تناقص في الحالتين. كفت بعض الدول عن تسويقهما، فيما تواصل مالطا منح الجواز والإقامة الذهبيين، غير عابئة برغبة الاتحاد الأوروبي. وكيف لا تصر على موقفها إذا كانت عائداتها بين 2013 و 2018 قد تجاوزت 718 مليون يورو، وأنقذت موازنتها من عجز عانته، كما تردّد؟
الصينيون هم الأكثر عدداً بين المهتمين باقتناء الجواز والإقامة "الذهبيين" الأوروبيين، يليهم الروس، من أثرياء و"مرابون" ومقربون من الكرملين. أما العرب، فحصتهم محدودة، إذ يفيد تقرير "منظمة الشفافية" المذكور آنفاً أن 28 مصرياً و 25 لبنانياً حصلوا على الإقامة في بلغاريا بين عامي 2012 و 2017، فيما حظي بها العدد ذاته (109) من كل من البلدين في اليونان من 2013 إلى 2018. واختار مواطنو دول عربية أخرى جوازات دول أبعد من أوروبا وأرخص.
هناك تباين واسع بين ما تقدمه الدول الأوروبية لزبائنها، من حيث الثمن. مثلاً يبلغ ثمن الإقامة الذهبية 250 ألف يورو في اليونان ولاتفيا، وكانت كل من البرتغال وإيرلندا تتقاضى مقابل الإقامة الذهبية 550 ألف يورو. وفيما يدفع المرء نحو 2 مليوني يورو ثمناً لجواز السفر القبرصي، قد تصل تكلفة جواز السفر في النمسا الى 10 ملايين يورو. وتختلف أيضاً طرق الدفع وسواها من الشروط ذات العلاقة، من بلد إلى آخر.
إلا أن ما يجمع أطراف هذه التجارة هو أكثر مما يفرقها، إذ غالباً ما تسودها مخالفة القانون. أُلغيت جوازات سفر كثيرة في بلدان، منها هنغاريا ومالطا وقبرص وبلغاريا، بسبب طريقة الحصول عليها: إما بتبييض أموال، ودفع رشى، أو تساهل السلطات، أو عدم التدقيق في هوية طالب الجواز أو الإقامة، أو إهمال التأكد من مصدر أمواله الطائلة. وأفاد منها أشخاص قد يمثلون خطراً أمنياً، أو تهربوا من الضرائب، أو أُدينوا بتمويل الإرهاب، أو ربما تورطوا في الجريمة المنظمة.
وقد أخذت قصص الفساد تتكشف بعدما كُشف النقاب عن فضيحة الجوازات "الذهبية" في قبرص في عام 2020، والتي تورط فيها رئيس البرلمان السابق ديمتريس سيلوريس وآخرون نافذون. وبدأت المفوضية الأوروبية إجراءات عقابية ضد قبرص ومالطا، ولكن بعدما كانت نيقوسيا قد باعت جنسيتها الأوروبية لنحو 1400 ثري وعائلاتهم بين عامي 2017 و2019، بمن فيهم 30 شخصاً متهماً بارتكاب جرائم و40 آخرون تورطوا بفضائح سياسية. ثم أتى الغزو الروسي لأوكرانيا لكي يطوي صفحة الجوازات والإقامات "الذهبية" في دول عدة، كانت بريطانيا في طليعتها.
وتشكو التجارة من قلة التنسيق علماً أن تراخي أي من دول الاتحاد الأوروبي في مراقبة عمليات بيع الجوازات والإقامات قد يهدد أمن وسلامة القارة كلها. مع ذلك، يُعتقد أن النمسا ومالطا هما الوحيدتان اللتان تحتفظان بقوائم تضم أسماء المواطنين الذي أفادوا من برامج الهجرة الاستثمارية. واللافت أن 7 من أصل البرامج الـ17 لم تصرّح بحجم الاستثمارات التي جمعتها. هكذا تسلّط هذه التعاملات الضوء على عجز البيروقراطية الأوروبية عن ترتيب بيتها الداخلي.
لكن ما ضرّ أن تبيع دولة الجنسية أو حق الإقامة، إذا كان ذلك سيرفع من شأن اقتصادها المتهالك؟
لن تكفي استثمارات كهذه تفتقر الى التخطيط ويذهب القسط الأكبر منها الى سوق العقارات، لضمان استقرار اقتصاد ضعيف، حتى لو قدمت له بعض الدعم الموقت، كما في حالة مالطا مثلاً. ثم إن المكاسب أقل بكثير من الأضرار على المدى الطويل. فهذه التجارة تشجع الفساد، وتقدم للمجرم والمهرب وربما الإرهابي طريق الفرار من العدالة، كما تجلب الى دولة ما كتلة بشرية تبقى غريبة عنه على الرغم من أن كلاً من افرادها يحمل قصاصة ورق تثبت أنه ينتمي الى المكان. وهذه الكتلة، لا تختلف عن مجموعة من السيّاح بشكل أساسي فهي موقتة، وليست متجانسة مع المكان الذي لا تنطق بلسانه ولا تعرف ثقافته من الداخل. والعنصر الدخيل، مهما طال الزمن، يبقى دخيلاً يمكن التخلي عنه إن لم يسقط من تلقاء نفسه.
ثمة أجانب آخرون، يأتون الى أوروبا كلاجئين، فتنبذهم. لكنها في الوقت نفسه، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام أصحاب الجيوب المملوءة بمال ملطخ بالدم والعنف وربما الإرهاب. ففي سوق الإتجار بالجنسية في الغرب، تصبح القومية التي يحيطونها بهالة من القدسية على أنها رمز سيادتهم التي لا تزول ولا تحوّل، مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب.
المصدر : النهار بالعربي