محمد محمود شحادة
نحن على مشارف الشهر الخامس من حرب الابادة المشنة على قطاع غزة في فلسطين، ونزيف الاعمار وتمزيق الأجساد ودمار البيوت والبنى الفوقية والتحتية لموارد العيش في غزة، ونحن على مشارف الشهر الخامس على اكبر مشهدية يتابعها المشاهدون من كل دول العالم مباشرة على الهواء طيلة ما يزيد عن مئة وعشرين يوماً، وتشاهدها امهات وآباء وأطفال وطلاب مدارس وجامعات وأساتذة حقوق دولية وانسانية كما ويشاهدها نواب ووزراء وحكومات ومجالس شعوب وبرلمانات اوروبية وعربية وغربية ومنظمات اقليمية ودولية ومنظمات غير حكومية مهمتها التنمية البشرية والدفاع عن الحقوق الفردية في المجتمع والحريات، وتشاهدها منظمة الامم المتحدة التي اسست بغرض الحفاظ على الامن الجماعي وتجنيب شعوب العالم ويلات الحروب ومأسيها كما جاء في ديباجة ومقدمة ميثاق الامم المتحدة.
ان هذه الشعوب العالمية المنقسمة الى قسمين: القسم الاول هو القسم المصدر للثقافة والثاني هو القسم المستورد لها، فما هي هذه الثقافة التي تصدر من الدول الغربية؟ والتي تأسس عليها النظام العالمي عام ١٩٤٥ بعد مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انشأ هيئة الامم المتحدة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، ووضع حداً لهمجية العدوان والقتل واعتماد قوانين تقنن الحروب والنزاعات كالقانون الدولي الانساني و محاكم دولية تلجم مرتكبي الجرائم؟
أصبحت المؤسسات السياسية في اوروبا واميركا (رئاسة، برلمان، حكومة..) تُنتج عبر الشعوب، فالمواطن هو الذي يحدد هوية السلطة السياسية التي تحكمه وهذا مبدأ اساسي من مبادئ الديمقراطية، فأصبحت الاحزاب المتنافسة على السلطة تتبارى فيما بينها وفقاً لمعايير الحريات والديمقراطية والعدالة والمساواة الى ان وصلت بهم التنازلات حتى عن القضايا الاخلاقية الفطرية للبشر بحجة الايمان بالحرية الفردية المطلقة، اما الاشخاص او اي حزب يتأخر عن غيره بالافراط في هذه المبادئ العامة الحديثة فإنه يعرض نفسه للخسارة في اي انتخابات قادمة من قبل الشعوب التي تمت برمجتها على العدالة والمساواة الى ابعد حدود ليس في دولها فحسب بل في كل العالم.
ولا زال هذا المشاهد الغربي اليوم في العام ٢٠٢٤ يراقب احداث غزة وهو بصدمة من هول الاحداث والمجازر الجماعية ولكن الصدمة الاكبر والتاريخية هي مواقف الانظمة الاوروبية والغربية الساكتة لا بل المؤيدة وبعضها الداعمة بالمواقف والسلاح للاستمرار بإبادة اهل غزة مثل فرنسا والمانيا واميركا.
هذه الصدمة تعتبر صدمة التاريخ بالنسبة للشعوب الغربية التي تتعامل مع حكامها على معايير حقوق الانسان وقد تجاوزت معه في السابق كل الحدود الدينية والقومية لاجله، وخلعت لاجله كل العقائد التي قد تعيق الحريات والتطور والحداثة وذلك ايمانا بفكر حر مشترك، واذ بها اليوم تشاهد المشهدين في وقت واحد مشهد المجازر في غزة ومشهد الحكام المؤيدة للمجازر في بلادهم، فبدأت تذهب لمعاملتهم بنفس القانون الذي جاء بهم حكاما فبدأوا بممارسة حرية الرأي والتعبير في مظاهرات مستمرة في انحاء اوروبا واميركا ليس آخرها المظاهرة المليونية في لندن الشهر الفائت و لا الاعتصام في هولندا – لاهاي امام محكمة العدل الدولية مع مشهد تمثيلي يلخص المجازر والصمت الدولي تجاهها، وكذلك تحريك الدبلوماسية الفرنسية بوجه رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون ومطالبات النواب في الاتحاد الاوروبي والدول بالتحرك لانقاذ الانسان في غزة ومهاجمات عبر الصحف اليومية والرأي العام.
كل هذه التحركات والاعتراضات تعتبر محاسبة اولية للحاكم الغربي ولكن المحاسبة الحقيقية ستكون في صندوق الاقتراع، فقد اعتاد المقترع الغربي على المحاسبة في الصندوق وتبديل الحاكم الكاذب والفاسد بمن هو صادق ونزيه، فإن المنافسة بين السياسيين في اوروبا واميركا على الرفض للعدوان المفرط في فلسطين ستبدل حتماً مواقف الدول تجاه القضية الفلسطينية لان الشعوب التي نشأت على افكار المساواة والعدالة والحرية ستحاسب وتؤسس من جديد لحكام يصدق عليهم انهم يعملون للمساواة والحرية والعدالة.
هنا نكون امام احدى ٣ سيناريوهات اولها انتصار النظام العالمي ومبادئه بفضل شعوبه وذلك في حال وقفت الحرب نتيجة مواقف الدول سيما في مجلس الامن الذي ما برح يصدر الفيتوهات على قرارات وقف العدوان، وذلك بفضل ضغط الشعوب المؤثرة في قرارات حكامها.
والسناريو الثاني استمرار الحرب مع استمرار تعنت الحاكم الاوروبي والاميركي تجاه موقف شعبه ولكن بعمر قصير حده اي انتخابات قادمة رئاسية كانت ام تشريعية وذلك يحقق انتصار الشرعية الدولية ولكن بهزيمة الحكام الحاليين وتبديلهم، واما السيناريو الثالث وهو الاعنف اي استمرار الحرب واستمرار مواقف الحكام الغربيين وتزايد اصطداماتهم مع شعوبهم ما سيؤدي الى اضطرابات داخلية في اوروبا واميركا قد تعيق عمليات انتخابية نزيهة وشفافة فإما تتأجل او يتم العبث فيها بالنتائج وهذا ما لا يحمد عقباه الذي قد يؤدي الى تطورات داخلية في الدول سيؤثر في تسريع عملية ابادة النظام العالمي الحديث، وبالتالي الى فوضى في النظام الدولي غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية .