محمد محمود شحادة
ونحنُ على عَتبةِ الذكرى السابعةِ والأربعينَ لتغييبِ إمامِ المقاومةِ والوطنِ والعيشِ المُشترك، سماحةِ السيِّد موسى الصدر، تَلفتُنا العديدُ من مواقِفِه الاجتماعيَّةِ الطيِّبةِ من جهةٍ، والعقائديَّةِ من جهةٍ، والوطنيَّةِ من جهةٍ أُخرى، فضلًا عن الاستراتيجيّاتِ المختلفةِ داخليًّا وخارجيًّا، التي تحوَّلت إلى موادَّ قانونيَّةٍ في نظامِ الدولةِ والدستورِ والإدارةِ، وميثاقِ الحركةِ التي أسَّسها للأغراضِ الوطنيَّةِ والدينيَّةِ والإنسانيَّة.
ولو استطعتُ القفزَ فوقَ العديدِ من العباراتِ الأساسيَّةِ الصادرةِ عن الإمامِ الصدر، فلن أستطيعَ أبدًا القفزَ فوقَ الأقوالِ التي تُحدِّدُ مصيرَ العلاقةِ اللبنانيَّةِ مع العدوِّ الإسرائيلي، لا سيّما في فتواه بحرمةِ التعاملِ مع هذا الكيانِ باعتبارِه شرًّا مُطلقًا، وأيضًا في حديثِه الصريحِ عن وجوبِ القتالِ ضدَّ إسرائيل.
لكن، في هذه المرحلةِ التي نَمرُّ بها في لبنان، حيثُ يُحاولُ البعضُ التَنصُّلَ من العداوةِ مع إسرائيل، كان الإمامُ الصدرُ، قبل خمسينَ عامًا، يُوجِّهُ إليهم هذه المقولة:
“يجب أن نَعملَ كي تَبقى إسرائيلُ عدوًّا.”
فالكثيرون يمرُّون على هذا القولِ مرورًا سطحيًّا في سياقِ ربطِ الصراع، ولكنَّ حقيقةَ القولِ أنَّ الإمامَ الصدرَ لم يَكتفِ بإرساءِ مفهومِ التصدِّي للعدوانِ الإسرائيلي، ولا حتى بالحيادِ في حالةِ الهُدنة، بل يُفتي – بكلِّ وضوحٍ – بوجوبِ العملِ بكلِّ الطاقاتِ التي نَملكُها، والتي نستطيعُ أن نُعِدَّها، بأن نُمارسَ حياتَنا اليوميَّةَ في اتجاهِ الحفاظِ على العداوةِ مع إسرائيل.
فالقراءةُ الأُوليةُ لهذهِ الفتوى تُفَسَّرُ عبر ربطِها بفتواهُ الأُخرى بحرمةِ التعاملِ مع إسرائيل، لأنَّها شرٌّ مُطلق، والشرُّ المُطلقُ هو الشيطانُ، وهذا ما يُنهِي عنه اللهُ عزَّ وجلَّ في القرآنِ، لأنَّ الشيطانَ عدوٌّ لله، ولا شيءَ في الحياةِ يُبيحُه اللهُ أن يَتذلَّلَ الإنسانُ فيه للشيطان، حتّى لو أدّى ذلك إلى الموت، الذي يُعتَبَرُ في هذه الحالة شهادة.
إذًا، الحرمةُ واضحةٌ في التعاملِ مع هذا الكيانِ الشرير، وكذلك الوجوبُ واضحٌ في العملِ على إبقاءِ العداوةِ مع إسرائيل، كما هو واجبُ إبقاءِ العداوةِ مع الشيطان.
والمقصودُ بـ”العملِ” هنا: التعبئةُ بالدرجةِ الأولى، والثقافةُ، والتدريبُ، والاستعدادُ، وعدمُ الأخذِ بالأمانِ أو العهودِ منهم، بل حتّى – إنِ اقتضى الأمرُ – تعميقُ العداءِ عبر توجيهِ أذيَّةٍ ولو رمزيَّةٍ من وقتٍ إلى آخر.
فما هيَ المصلحةُ الوطنيَّةُ، ومصلحةُ الطائفةِ الشيعيَّةِ خصوصًا، من وجوبِ العملِ لإبقاءِ إسرائيلَ عدوًّا؟
في ظلِّ انخراطِ الأُمَّةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ في مسارِ التنازُلِ عن هذه العداوة، والتسابقِ نحوَ فتحِ علاقاتٍ مباشرةٍ وتطبيعِ الأنظمةِ مع كيانِ العدو، راودتني مجددًا عبارةُ الإمامِ الصدر.
فالسؤالُ اليومَ ليس: من هو القوي قبل التطبيع؟ بل: من هو القوي بعد التطبيع؟
من المُفترَضِ أنَّ المتنازِلَ هو المُستضعَف، والقويَّ في التحالفِ هو المستفيد. أمّا الذي كان قويًّا قبل التطبيع ورفضَه، فسيُحسب له حسابٌ، وستُمنحُ له حريَّةُ المقاومةِ لاستمرارِ العداء، رغم الضغوطِ والمآزقِ التي قد يُواجِهُها. فالعالَمُ الكَبيرُ، والمُجتمعُ الدوليُّ، يبحثُ عن لحظةٍ يجدُ فيها طرفًا يقول: “لا لإسرائيل”، ويَضعُ حدًّا للغَطرسةِ اليهوديَّة. هذا الطرفُ، هو الذي سيكونُ قويًّا بعد تطبيعِ الجوارِ المُنبطحِ والمُتنازِل.
فالمُطَبِّعونَ قد أسقطوا كلَّ أوراقِهم، ومن يسقطُ أوراقَه يُصبحُ ضعيفًا، أمّا من يحتفظُ بورقةِ المقاومةِ والعداءِ لإسرائيل، فهو من سيرفعُ العالَمُ له القُبَّعة، ويَمدُّه بالاحترامِ والدعم.
وهذه الأيّامُ ستُثبِتُ صحَّةَ هذه البصيرةِ العميقةِ للإمامِ المُغَيَّب، السيِّد موسى الصدر، أعادَهُ اللهُ ورفيقَيه

